پنجشنبه, ۳۰ ارديبهشت ۱۳۹۵، ۰۱:۱۸ ق.ظ
عندما یعتنق الإنسان مذهباً معیناً لیکون الأساس الفکری والعقائدی الذی
ینطلق منه على مستوى الحرکة فی الحیاة من شتى نواحیها، فإنه یطمح کذلک لأن
یصل إلى أعلى ما یستطیع أن یحققه فی سلّم الشرف أو الرتبة حسب ما هو مقرر
بمقتضى ذلک المذهب الاعتقادی الذی آمن به الإنسان وذاک الطموح الذی یشکل
حقیقة واقعیة عند کل فرد من البشر على اختلاف انتماءاتهم الفکریة، الإلهیة
منها أو الوضعیة، فهو الذی یدفع بالفرد الذی یملک المؤهلات للوصول إلى تلک
المراتب العالیة أو یدفع به لأن یحصل على القابلیات التی تؤهله للوصول إلى
تلک المراتب.
إلاّ أنّ اختلاف مصادر الاعتقاد والأهداف المحددة لها هو الذی یحدد الفوارق
والفواصل بین المؤهلات التی توصل إلى الأهداف المنشودة من کل عقیدة.
فالعقائد الوضعیة مثلا التی لا تتجاوز أهدافها حدود هذا العالم المادی، فلا
شک أن هدف المؤمنین بمثل هذه المذاهب الفکریة سوف یختلف عن هدف الإسلام
مثلا الذی یتناقض مع تلک المذاهب مصدراً وهدفاً، لأن الإسلام مذهب إلهی
المصدر وأهدافه تتعدى الدنیا لتشمل حیاة ما بعد الموت أی "الآخرة". ومن هنا
فإنَّ سلوک کل من هذین الفریقین یکون مختلفاً بمقدار ما یکون کل منهما
ملتزماً بالمذهب الذی یعتنقه ویعمل من خلال قوانینه وأحکامه.
انطلاقاً من هنا علینا أن ننظر إلى مسألة الشهادة بمعنى "القتل فی سبیل
الله سبحانه وتعالى" التی تعتبر کأرفع وأسمى ما یسعى الإنسان المؤمن
بالإسلام لتحقیقه من خلال وجوده فی هذه الحیاة، ولهذا کانت الشهادة هدفاً
للأنبیاء (ع) والأولیاء والصالحین على مرّ العصور، لأنها تمثل قمة العطاء
الإنسانی للرسالیین الذین وعوا معنى الحیاة وتعاملوا معها على أنها هبة
إلهیة المصدر والمرتجع وعلیهم أن یتعاملوا معها على هذا الأساس، فکان
وجودهم کله خیراً وعطاء للإنسانیة کلها بدون استثناء ونقیضاً لکل ما یعیق
حرکة الإنسان للإرتباط بالحق المطلق الذی وهبنا الحیاة لنحیاها خیراً وبرکة
وعطاءً دائماً متجدداً.
من هنا کانت الشهادة فی سبیل الله على الدوام هدفاً رئیساً لکل السائرین
على طریق الأنبیاء (ع) والأوصیاء (ع) لأنها الطریق التی تحقق للحیاة معناها
من خلال التعب والألم والمعاناة التی یتکبدها أولئک فی سبیل تحقیق هدف
الله على أرضه، ولأنها هی السبیل لصقل النفس وتدریبها على عصیان الهوى
وملذات الحیاة.
إن مسیرة القرآن فی حدیثه عن الشهادة تبدأ من خلال تذکر الله للإنسان
بنعمة الخلق والایجاد وانتهاء بیان أجر الشهید ومقام الشهداء فی تسلسل
مترابط الحلقات، ولهذا یبدأ الله عزّ وجلّ بتذکیر الإنسان بالنعم التی
أنعمها علیه من خلال قوله تعالى {اقرأ باسم ربک الذی خلق * خلق الإنسان من
علق * اقرأ وربک الأکرم * الذی علم بالقلم * علم الإنسان ما لم یعلم}، أو
من خلال الآیات التی تنفی العبثیة واللغویة من وراء خلق الإنسان کقوله
تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناکم عبثاً وأنکم الینا لا ترجعون}.
ففی الآیات الأولى یوضح الله أعظم نعمة قد منحها هی "نعمة الخلق والتکوین"
وأنه لولا تلک الهبة الإلهیة لما تحقق للإنسان أن یوجد أصلاً لعدم قدرة غیر
المصدر الربانی على إعطاء تلک المنحة العظیمة والنعمة الکبرى، ثم یعقب ذلک
بیان النعمة الثانیة فی سلسلة النعم وهی نعمة العلم والمعرفة التی
بواسطتها یستطیع الإنسان أن یدرک مصدر الوجود ومفیضه وأن یستوعب وجوده فی
الدنیا لیتعامل مع ذلک الوجود على أساس أهداف الله فی الحیاة. وبعد الحیاة
فعلى الإنسان إذن أن یدرک تماماً أن وجوده هنا إنما هو منحة أفاضها علیه
مفیض الوجود الذی لا یبخل بمدنا بذلک الفیض الربانی المتواصل حتى اللحظة
الأخیرة لوجودنا الذی قدره فی علمه وحکمته لکی ننتقل بعدها إلى النوع
الثانی للحیاة وهی حیاة الآخرة التی فیها البقاء والخلود إما فی النعیم
الدائم أو الشقاء الدائم.
ثم یشرع القرآن الکریم بذکر الأهداف التی وهب الله الإنسان الحیاة من أجلها
وهی تبدأ من الإیمان بالله والالتزام بشریعته لتحقیق الأهداف السماویة
المطلوب إیجادها فی أرض الله: وهی أن تکون شریعة الله هی التی تحکم الحیاة
وحرکة الإنسان وذلک من خلال قوله تعلى {هو الذی أرسل رسوله بالهدى ودین
الحق لیظهره على الدین کله ولو کره المشرکون} وبقوله تعالى {وأنزلنا إلیک
الکتاب بالحق مصدقاً لما بین یدیه من الکتاب ومهیمناً علیه فاحکم بینهم بما
أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمَّا جاءک من الحق}.
هذه الأهداف التی من أجلها وهب الله الحیاة للبشر لیستغلوا وجودهم کما أراد
عزّ وجلّ ، ومن أجل هذه الأهداف أرسل الله أنبیاءه عبر العصور والأجیال
لیذکروا الناس على الدوام لیکون التبلیغ والانذار حجة على الخلق یوم یقوم
الناس لرب العالمین لیحاسبوا على ما فعلوه فی الحیاة الدنیا، لأن البشر من
دون ذلک التبلیغ الدائم قد یتیهون عن الأهداف التی من أجلها خلقوا وینحرفون
عن الصراط وجادة الحق. ثم بعد بیان الأهداف یشرع الله ببیان الوسائل التی
تمهد للوصول الیها وهی الدعوة للبشر إلى اتباع سبیل الله فی الحیاة لیفوزوا
الفوز المبین فی الدنیا والآخرة، إلا أن تلک الدعوة إلى الخیر التی حملها
الأنبیاء (ع) عبر التاریخ کانت تصدم على الدوام بالقوى المسیطرة التی تتحکم
بحرکة المجتمع وتمسک بزمام الأمور فیه، تلک القوى التی غالباً ما تکون
بعیدة عن التعامل العقلانی الواقعی لأن أطماعها ومصالحها هذه ببقاء النمط
الجاهلی وعدم الرضوخ لإرادة التغییر التی حملها الأنبیاء والمصلحون
والأولیاء، ولهذا نرى القرآن یصرح أن أمثال هؤلاء کانوا یقفون دائما کالسد
المنیع فی وجه الاصلاح على مستوى الفرد أو المجتمع کما فی الآیة الشریفة
{وقال الذین کفروا لرسلهم لنخرجنّکم من أرضنا أو لتعودن فی ملتنا فأوحى
إلیهم ربهم لنهلکنّ الظالمین}.
والوسائل التی بیّنها الله لنا للوصول إلى الأهداف المرجوة تبدأ من الدعوة
بالحکمة والموعظة الحسنة بادئ الأمر لأن الحجة والاقناع هما السبیلان
الطبیعیان لایصال الفکرة إلى الآخرین وکما قال الله عزّ وجلّ {ادع إلى سبیل
ربک بالحکمة والموعظة الحسنة} أو قوله تعالى {وجادلهم بالتی هی أحسن}.
إلا أن هذه الوسیلة لم تکن تجد الآذان الصاغیة عند الفئات المستکبرة التی
تملک زمام الأمور فی مجتمعاتها، ولهذا أمر الله سبحانه بوسیلة أخرى وهی
الجهاد والقتال ضد أولئک الذی یقفون فی طریق هدایة الناس وارشادهم لکسر
حواجز الخوف والقلق التی تسیطر على المستضعفین من عباد الله الرازحین تحت
سلطة القوى الظالمة المستکبرة. هذه القضیة "الجهاد فی سبیل الله" قد خصها
الله تعالى بحیز کبیر فی کتابه الکریم لما فیها من مظاهر القوة لخطه تعالى
فی الحیاة، وما تحققه من ابراز لهیبة المؤمنین لالقاء الرعب فی قلوب الذین
کفروا والمنافقین الذین لا یستسلمون لارادة المؤمنین المرتبطین بالله عزّ
وجلّ طوعاً.
وآیات القرآن الکریم تتعرض لقضیة الجهاد مبثوثة فی سوره بکثرة والتی تبدأ
بالحث علیها بکل الوسائل الممکنة وصولاً إلى تحریم ترکها والعقوبة على عدم
العمل بها عندما تکون ظروف العمل الرسالی متوقفة علیها. ومن نماذج آیات
الجهاد قوله عزّ وجلّ {یا أیها النبی جاهد الکفار والمنافقین واغلظ علیهم}،
وقوله تعالى {قاتلوهم یعذبهم الله بأیدیکم ویخزهم وینصرکم علیهم ویشف صدور
قوم مؤمنین}، وقوله تعالى {وقاتلوا الذین لا یؤمنون بالله ولا بالیوم
الآخر ولا یحرمون ما حرم الله ورسوله ولا یدینون دین الحق من الذین أوتوا
الکتاب حتى یعطوا الجزیة عن یدٍ وهم صاغرون}.
ثم یبدأ الله سبحانه بالتحذیر من ترک الجهاد الذی یعنی الخوف من الموت
والرکون إلى الدنیا الفانیة والالتصاق بها، حتى یصل التحذیر إلى حدَّ إبادة
أولئک الذین یتمنعون عنه واستبدالهم بقوم آخرین یعشقون الجهاد والموت فی
سبیل الله عزّ وجلّ کما فی قوله تعالى {إلا تنفروا یعذبکم عذاباً ألیماً
ویستبدل قوماً غیرکم ولا تضروه شیئاً والله على کل شیء قدیر}، وقوله تعالى:
{قل إن کان آباؤکم وأبناؤکم وإخوانکم وأزواجکم وعشیرتکم وأموال اقترفتموها
وتجارة تخشون کسادها ومساکن ترضونها أحبّ إلیکم من الله ورسوله وجهاد فی
سبیله فتربصوا حتى یأتی الله بأمره والله لا یهدی القوم الفاسقین}.
وقد ورد فی الروایات عن النبی (ص) وأهل بیته (ع) ما یوضح دلالة هذه الآیات
أکثر من خلال شرح مضامین هذه الآیات المبارکة بالحدیث الشریف، کما قوله
النبی (ص): "إن فوق کل بر بر حتى یقتل الرجل فی سبیل الله فاذا قتل فی سبیل
الله فلا برّ فوقه"، وقول أمیر المؤمنین (ع): "أما بعد، فإن الجهاد باب من
أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أولیائه، وهو درع الله الحصینة وجنته
الوثیقة"، أو کما ورد عن النبی (ص): "من مات ولم یغز ولم یحدث به نفسه مات
على شعبة من النفاق". وکذلک ورد فی الروایات ما یکشف عن مساوئ ترک الجهاد
وأثر ذلک على الأمة کلها من قبیل ما ورد عن رسول الله (ص): "فمن ترک الجهاد
ألبسه الله ذلاً وفقراً فی معیشته ومحقاً فی دینه، إن الله أعز أمتی
بسنابک خیلها ومراکز رماحها"، وما ورد عن الإمام الصادق (ع) بقوله "فإن
مجاهدة العدو فرض على جمیع الأمة ولو ترکوا الجهاد لأتاهم العذاب وهذا هو
من عذاب الأمة".
ولهذا نرى أن الله عزّ وجلّ لم یجعل المجاهدین فی نفس المنزلة مع غیرهم بل
جعل المجاهدین یمتازون عن غیرهم فی المرتبة والمکانة عنده وعند الناس،
لأنهم هم الذین انبروا لیدافعوا عن شرف الأمة وقد صمدوا أمام أعدائها
وأخذوا على عاتقهم رد کید المعتدین والظالمین الذین یریدون اذلال العباد
واستعمار البلاد، ولهذا نطق القرآن الکریم بفضلهم على غیرهم کما فی الآیة
الکریمة {فضل الله المجاهدین على القاعدین أجراً عظیما}، و{فضل الله
المجاهدین بأموالهم وأنفسهم على القاعدین درجة}.
إلى هنا ندرک إذن أهمیة الجهاد والقتال فی سبیل الله سبحانه وتعالى، وهو
أنه من أهم وأعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر وهو السبیل الذی
یقطع دابر الفتنة والفساد من العالم، وندرک أیضاً من خلال ذوق الشریعة فی
التعامل مع قضیة الجهاد على أن ترکه محرم لما فیه من تسلیط لأعداء الله
والإنسانیة على البشر لیضطهدوهم ویذلوهم ویستغلوا خیرات بلاد الله، مضافاً
لما فی ترکه من الذل العار فیفقد الإنسان بذلک حریته وکرامته وفوق کل ذلک
عزّته التی یأبى الله للمؤمن المسلم أن یفرط فیها، ولما فی ترک الجهاد من
موات للدین وللشرائع، وإحیاء للبدع الضالة وتقویة للشیطان وحزبه.
ثم ینتقل الله سبحانه وتعالى لیعبر عن الجهاد بأنه تجارة مربحة مع الله
سبحانه وتعالى بقوله عز وجل {هل أدلّکم على تجارة تنجیکم من عذاب الیم *
تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فی سبیل الله بأموالکم وأنفسکم ذلک خیر لکم
إن کنتم تعلمون * یغفر لکم ذنوبکم ویدخلکم جنات تجری من تحتها الأنهار
ومساکن طیبة فی جنات عدن ذلک الفوز العظیم}، أو کما فی الآیة الأخرى التی
یعبر فیها عن الجهاد بأن الله یشتری من المؤمنین حیاتهم بدفع الجنان لهم فی
الآخرة کما قال سبحانه {إن الله اشترى من المؤمنین أنفسهم وأموالهم بأن
لهم الجنة یقاتلون فی سبیل الله فیقتلون ویُقتلون}.
وتکریم الله لفریضة الجهاد والحثّ علیها بهذا المقدار یرجع إلى أن الشهادة
أی القتل فی سبیل الله، هی ثمرة من ثمرات هذا الجهاد وأثر ومن آثاره، ولهذا
نرى أن الله سبحانه وتعالى قد رفع من قیمة الشهادة والشهداء إلى الحدّ
الذی یجعل فیه الشهید هو قمة الأفراد من بین البشر باعتبار أن حیاته قد
أعطاها لربه من خلال قیامه بخدمة نفسه وأمته بعمله وجهاده وسعیه من أجل خیر
الآخرین. ومن هنا نرى أن القرآن الکریم یعبر عن الشهداء بأنهم لا یموتون
بل هم الأحیاء حقاً وصدقاً کما قال سبحانه {ولا تحسبن الذین قتلوا فی سبیل
الله أمواتاً بل أحیاء عن ربهم یرزقون * فرحین بما آتاهم الله من فضله
ویستبشرون بالذین لم یلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف علیهم ولا هم یحزنون *
یستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا یضیع أجر المؤمنین}. أو من خلال
قوله تعالى {ولا تقولوا لمن یقتل فی سبیل الله أموات بل أحیاء ولکن لا
تشعرون}. ولها نرى أن الروایات الکثیرة التی تعرضت لقضیة الشهادة قد بیّنت
أن أفضل الموت هو القتل فی سبیل الله عزّ وجلّ مثل الحدیث التالی "أشرف
الموت قتل الشهادة"، و "ما من قطرة أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من قطرتین: قطرة
دم فی سبیل الله وقطرة دمعة فی سواد اللیل لا یرید بها عبد إلاّ الله عزّ
وجلّ"، وقد ورد عن أمیر المؤمنین (ع) عندما کان یتهیأ إلى صفین قال (ع):
"اللهم ربّ السقف المرفوع، إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغی وسددنا للحق،
وإن أظهرتهم علینا فارزقنا الشهادة واعصمنا من الفتنة".
أما حبّ الشهداء للشهادة فهو فوق کل حدّ ووصف لما ادّخر الله للشهداء من
المکانة العظیمة والمرموقة مع النبیین والأولیاء والصالحین من عباد الله
عزّ وجلّ، وهذا أیضاً ما أشارت الیه الأحادیث مثل "والذی نفسی بیده لوددت
أنی أُقتل فی سبیل الله ثم أحیا ثم أُقتل ثم أحیا ثم أُقتل"، أو کما قال
أمیر المؤمنین (ع): "فو الله لولا طمعی عند لقاء عدوی فی الشهادة وتوطینی
نفسی عند ذلک لأحببت ألاّ أبقى مع هؤلاء یوماً واحداً".
ولهذا العشق من الشهداء للحصول على مرتبة الشهادة مزایا وعطایا إلهیة کثیرة
قد منحها الله لهم لأنهم قد استطاعوا أن یصلوا من خلال إیمانهم بالله
وتقویة ارتباطهم به إلى أن یعیشوا الحیاة بالشکل الذی یریده الله سبحانه
وتعالى، فهم عندما یتحرکون ویعملون أو یقولون ویتکلمون لا یکون هدفهم من
ذلک إلا أن یرضى الله عن قولهم وفعلهم، ولهذا فلیس من الکثیر على الشهداء
أن یحصلوا على کل تلک النعم والعطایا الإلهیة العظیمة التی تبدأ من أول
اللحظات التی یدخلون فیها جنان الخلد، وقد بیّنت الروایات الواردة عن أهل
البیت (ع) تلک العطایا السخیة وهی:
أولاً: غفران الذنوب کلها: أــ "الشهادة تکفر کل شیء إلا الدین" ــ ب ــ
"أول ما یهرق من دم الشهید یغفر له ذنبه کله إلا الدین" ــ ج: "یغفر للشهید
کل ذنب الا الدین".
ثانیا: عدم الفتنة فی القبر: أــ "من لقی العدو فصبر حتى یقتل أو یغلب لم
یفتن فی قبره" ــ ب: "سئل النبی (ص) ما بال المؤمنین یفتنون فی قبورهم إلا
الشهید؟ فقال: کفى ببارقة السیوف على رأسه فتنة".
ثالثاً: تمنى الرجوع إلى الدنیا: أــ "ما من نفس تموت لها عند الله خیر
یسرها أن ترجع إلى الدنیا ولا ان لها الدنیا وما فیها إلا الشهید فإنه
یتمنى أن یرجع فیقتل فی الدنیا لما یرى من فضل الشهادة" ــ ب: "ما من أحد
یدخل الجنة یجب أن یرجع إلى الدنیا وان له ما على الأرض من شیء غیر الشهید
فإنه یتمنى أن یرجع فیقتل عشر مرّات لما یرى من الکرامة".
رابعاً: عدم انحلال أجسادهم، وهذه الحقیقة تؤکدها المشاهدات العینیة لأجساد
الکثیر من الشهداء الذین سقطوا فی سبیل الله عزّ وجلّ ، فکرامة لهم من
الله أن تبقى أجسادهم کما هی من دون أن یصیبها الانحلال والفناء، وقد روى
لنا خادم مقام الشهید حجر بن عدی أنه عندما أعید ترمیم القبر الشریف وصلوا
إلى أساس الضریح، فخرجت إلیهم ید الشهید وکأنه قد مات الآن.
وکذلک من کراماتهم بقاء أجسادهم طریة نضرة کأن الموت لم یصبها ولم یقع
علیها، هذا ما رأینا بأم أعیننا وما رواه لنا أخوتنا الذین کانوا ینقلون
جثمان الشهداء من أماکن استشهادهم بعد أیام أو أسابیع، ومن أمثلة هؤلاء
الشهداء: الشهید معین الدار الذی أحضروا جثمانه بعد استشهاده بثلاثة أسابیع
وکان مازال طریاً کأنه مات فی ساعته، والشهید حسن کسروانی الذی أحضرت جثته
بعد تسعة أیام، وکذلک الشهید الشیخ یاسر کورانی الذی أحضر جسده الشریف بعد
خمسة أیام. هذه النماذج إن دلت على شیء فإنما تدل على أن لشهید حیّ عند
الله لا یموت ویفتخر على کل العالمین بأنه القدوة لهم والحجة البالغة لله
علیهم أیضاً.
خامساً: إن الشهداء یدخلون الجنة بدون حساب أو تأخیر، وذلک لأن الذی یحاسب
هو الإنسان الذی یکون له وعلیه فیحتاج إلى عملیة المحاسبة لیوازن بین ما له
وما علیه، بینما الشهید الذی استغل کل وجوده فی سبیل الله وأعطى کل ما
وهبه الله له وحرم نفسه من استغلال نعم الله عزّ وجلّ لنفسه، مثل هذا
الإنسان لیس بحاجة للحساب، ولهذا فهو یرتع فی جنان الخلد کما وعده الله
سبحانه وتعالى آمناً مطمئناً إلى وعد الله ورحمته کما ورد فی الحدیث عن
النبی (ص) ان للشهید سبعة أشیاء أولها غفران الذنوب عند أول قطرة تسقط من
دمه، وسابعها أن ینظر إلى وجه الله أی إلى عظمة الله ورحمته لیتجاوز کل
بلاءات ما بعد الموت وحتى دخوله الجنة لیسرح فیها ویمرح آمناً مطمئناً
فرحاً بما أنعم الله علیه من العطاء السخی الذی لا یتبدل ولا یتحول.
وأما مواصفات الشهید فی الدنیا فلابدّ أن تکون متناسبة مع ما یسعون إلیه،
لأن الشهادة وسام إلهی لا یعطى لأی إنسان کان، بل تحتاج إلى قابلیات خاصة
ومؤهلات من نوع معین حتى یصبح الإنسان مشروع شهید فی هذه الحیاة الدنیا.
ومواصفات الشهداء تبدأ من الإیمان بالله إیماناً قویاً راسخاً لا یتزلزل
ولا یهتز أمام المغریات والمصاعب بل یزداد إیمانهم کلما ازدادت علیهم
المصاعب والعقبات التی تحول بینهم وبین ما یمنعهم من ما یقربهم إلى الله
سبحانه وتعالى.
ومن مواصفاتهم عدم الارتباط بالدنیا إلى الحدود التی تمنعهم من الارتباط
بالحق المطلق سبحانه، فهم یدرکون أن علاقتهم بالدنیا لن تکون إلا على حساب
علاقتهم بالله والعمل فی سبیله، فهم مراقبون لأنفسهم دائماً من أن یقعوا فی
أسر حبّ الدنیا وحبّ شهواتها وملذاتها بل یسعون من خلال قولهم وفعلهم إلى
التحرر من عبودیة الدنیا وشهواتها لیکونوا عبیداً لله عزّ وجلّ فقط، ولهذا
فهم لا ینظرون إلى الحیاة الدنیا على أنها ذات قیمة إلا من حیث کونها
طریقاً إلى الله سبحانه، ولهذا فهم لا یأخذون منها إلا النذر الیسیر
لیعینهم على أن یبقوا مع الله فی سلوکهم وتوجهاتهم.
ولهذا لا یکون کل من حمل السلاح مثلاً شهیداً أو مشروع شهید بل هی قبل کل
ذلک عملیة تربیة للنفس، وتصحیح لتوجهاتها وتهذیب لشهواتها ونزواتها لأن
التعلق بهذه الأمور یمنع الإنسان من أن یصل إلى مرتبة الشهادة التی
یتمناها، فبمجرد التمنی لا یحقق واقع الشهادة لأن الفارق بین الأمنیة
والواقع قد یکون عمیقاً جداً، لأن الشهید لا یدخل الجنة طالما هو متعلق بحب
الدنیا بل لا یمکن أن یختار الله إنساناً ما للشهادة طالما أن ذلک الإنسان
ما زال ینظر إلى الدنیا نظرة ذات قیمة وثمن لأن الشهید عندما یصل إلى درجة
الشهادة فهذا یعنی أن نفسه صارت نظیفة من کل أدران الدنیا وأوساخها وأن
الشهید لا یمکن أن یدخل الجنة طالما ما زال فی قلبه بعض من حبّ الدنیا ونحو
ارتباط وتعلق بها لأن الجنة بما، تمثله من صفاء ونقاء وقدسیة وطهارة لا
یمکن أن تقبل بوجود النفوس المتسخة المتلطخة بأوساخ الدنیا.
إن حبّ الشهادة عندما یملأ قلب إنسان ما وفکره سوف لن یرى من الدنیا إلا جانب الوسیلة فیها لا الهدف، وسوف ینظر إلى الدنیا على أنها ممر إلى حیاة الخلود والبقاء والنعیم الدائم فی ظلال رحمة الله ورضوانه، ومن هذا المنظار سوف لن یندم أو یتألم أو یتحسر على ما یفوته من نعمها وزخرفها لأنه قصر نظره على ما عند الله من العطایا السخیة والمکانة المحسودة عند الله للشهداء الذین أعطوا الله کل ما عندهم فلم یبخل الله علیهم بأعظم ما عنده، ولهذا ورد فی الأحادیث عن المعصومین (ع): بأنه ما من میت یتمنى الرجوع إلى الحیاة الدنیا سوى الشهداء لعظمة ما یرونه من التکریم لهم فی دار الآخرة، وسبب تمنیهم للرجوع إنما هو لکی یعیدوا سیرة ما کانوا یعملون، لیذوقوا نعمة الشهادة مرة ثانیة وثالثة ورابعة، بل وأکثر من ذلک. وبهذا یمکننا أن نفسر سر الانتصارات العظیمة للمسلمین فی الماضی والحاضر وأنه لولا حبّ الشهادة لما قام لهذا الدین قائمة ولما اخضر له عود، بل إن حبّ الشهادة وعشقها هو الذی حقق کل ذلک لأن ذلک الحبّ یعطی للإنسان قوة معنویة هائلة تفوق حدود المعقول حسب مقاییس الأرض وموازینها، لأن محبی الشهادة یقاتلون بقوة الله ویتحرکون بارادة الله وینظرون بعین الله عزّ وجلّ، ولهذا لا یبالی من یصبح شهیداً بالمعادلات التی تحکم حرکة الآخرین وتجعلهم أسرى مقاییس معینة لا یستطیعون تجاوزها، لأن المبادئ التی ینطلقون منها لتحدید النصر أو الهزیمة تختلف عن موازین الشهداء الذین ینظرون إلى ان النصر یتحقق إما بقتل الأعداء والفوز علیهم وهذا هو النصر الدنیوی، وإما بالقتل على ید الأعداء وهذا هو النصر الأکبر، وبهذا یتحقق لهم الوصول إلى الشهادة الحقة فی سبیل الله عزّ وجلّ. فسیرة الشهداء إذن تقوم على أساس الإیمان بالله والثقة المطلقة به من خلال الارتباط بالغیب والمدد الإلهی، وهذا النحو من الإیمان هو الذی یجعل من الذین لا یؤمنون بمنطق الشهادة والشهداء أن یقفوا حائرین مندهشین لا یقدرون على تفسیر حرکة الشهداء خاصة عندما تکون حرکة الواقع ومجریات الأمور کلها بید الفریق الذی یناقض منطقه منطق الشهداء ولا یتوافق معهم فی الرؤیة والهدف وأسلوب العمل.